فصل: باب الْكَلَامِ فِي الْأَذَانِ

مساءً 7 :2
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
28
الأحد
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب الْكَلَامِ فِي الْأَذَانِ

وَتَكَلَّمَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ فِي أَذَانِهِ وَقَالَ الْحَسَنُ لَا بَأْسَ أَنْ يَضْحَكَ وَهُوَ يُؤَذِّنُ أَوْ يُقِيمُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الكلام في الأذان‏)‏ أي في أثنائه بغير ألفاظه‏.‏

وجرى المصنف على عادته في عدم الجزم بالحكم الذي دلالته غير صريحة، لكن الذي أورده فيه يشعر بأنه يختار الجواز، وحكى ابن المنذر الجواز مطلقا عن عروة وعطاء والحسن وقتادة، وبه قال أحمد، وعن النخعي وابن سيرين والأوزاعي الكراهة، وعن الثوري المنع، وعن أبي حنيفة وصاحبيه أنه خلاف الأولى، وعليه يدل كلام مالك والشافعي، وعن إسحاق بن راهويه يكره، إلا إن كان فيما يتعلق بالصلاة، واختاره ابن المنذر لظاهر حديث ابن عباس المذكور في الباب، وقد نازع في ذلك الداودي فقال‏:‏ لا حجة فيه على جواز الكلام في الأذان، بل القول المذكور مشروع من جملة الأذان في ذلك المحل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وتكلم سليمان بن صرد في أذانه‏)‏ وصله أبو نعيم شيخ البخاري في كتاب الصلاة له، وأخرجه البخاري في التاريخ عنه وإسناده صحيح ولفظه ‏"‏ أنه كان يؤذن في العسكر فيأمر غلامه بالحاجة في أذانه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال الحسن‏)‏ لم أره موصولا، والذي أخرجه ابن أبي شيبة وغيره من طرق عنه جواز الكلام بغير قيد الضحك، قيل مطابقته للترجمة من جهة أن الضحك إذا كان بصوت قد يظهر منه حرف مفهم أو أكثر فتفسد الصلاة، ومن منع الكلام في الأذان أراد أن يساويه بالصلاة، وقد ذهب الأكثر إلى أن تعمد الضحك يبطل الصلاة ولو لم يظهر منه حرف، فاستوى مع الكلام في بطلان الصلاة بعمده‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ وَعَبْدِ الْحَمِيدِ صَاحِبِ الزِّيَادِيِّ وَعَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ فِي يَوْمٍ رَدْغٍ فَلَمَّا بَلَغَ الْمُؤَذِّنُ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ فَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ الصَّلَاةُ فِي الرِّحَالِ فَنَظَرَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَقَالَ فَعَلَ هَذَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَإِنَّهَا عَزْمَةٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حماد‏)‏ هو ابن زيد، وعبد الحميد هو ابن دينار، وعبد الله بن الحارث هو البصري ابن عم ابن سيرين وزوج ابنته وهو تابعي صغير، ورواية الثلاثة عنه من باب رواية الأقران لأن الثلاثة من صغار التابعين، ورجال الإسناد كلهم بصريون، وقد جمعهم حماد كمسدد كما هنا، وكذلك رواه سليمان بن حرب عنه عند أبي عوانة وأبي نعيم في المستخرج، وكان حماد ربما اقتصر على بعضهم كما سيأتي قريبا في ‏"‏ باب هل يصلي الإمام بمن حضر ‏"‏ عن عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي عن حماد عن عبد الحميد وعن عاصم فرقهما، ورواه مسلم عن الربيع عن حماد عن أيوب وعاصم من طرق أخرى منها وهيب عن أيوب، وحكى عن وهيب أن أيوب لم يسمعه من عبد الله بن الحارث وفيه نظر، لأن في رواية سليمان بن حرب عن حماد عن أيوب وعبد الحميد قالا‏:‏ سمعنا عبد الله بن الحارث كذلك أخرجه الإسماعيلي وغيره، ولمسدد فيه شيخ آخر وهو ابن علية كما سيأتي في كتاب الجمعة إن شاء الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏خطبنا‏)‏ استدل به ابن الجوزي على أن الصلاة المذكورة كانت الجمعة، وفيه نظر‏.‏

نعم وقع التصريح بذلك في رواية ابن علية ولفظه ‏"‏ أن الجمعة عزمة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في يوم رزغ‏)‏ بفتح الراء وسكون الزاي بعدها غين معجمة كذا للأكثر هنا، ولابن السكن والكشميهني وأبي الوقت بالدال المهملة بدل الزاي‏.‏

وقال القرطبي، إنها أشهر‏.‏

وقال‏:‏ والصواب الفتح فإنه الاسم، وبالسكون المصدر‏.‏

انتهى‏.‏

وبالفتح رواية القابسي، قال صاحب المحكم‏:‏ الرزغ الماء القليل في الثماد، وقيل إنه طين وحل، وفي العين‏:‏ الردغة الوحل والرزغة أشد منها‏.‏

وفي الجمهرة والردغة والرزغة الطين القليل من مطر أو غيره‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقع هنا يوم رزغ بالإضافة‏.‏

وفي رواية الحجبي الآتية في يوم ذي رزغ وهي أوضح‏.‏

وفي رواية ابن علية في يوم مطير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلما بلغ المؤذن حي على الصلاة فأمره‏)‏ كذا فيه، وكأن هنا حذفا تقديره أراد أن يقولها فأمره، ويؤيده رواية ابن علية ‏"‏ إذا قلت أشهد أن محمدا رسول الله فلا تقل حي على الصلاة ‏"‏ وبوب عليه ابن خزيمة وتبعه ابن حبان ثم المحب الطبري حذف ‏"‏ حي على الصلاة في يوم المطر ‏"‏ وكأنه نظر إلى المعنى لأن حي على الصلاة والصلاة في الرحال وصلوا في بيوتكم يناقض ذلك، وعند الشافعية وجه أنه يقول ذلك بعد الأذان، وآخر أنه يقوله بعد الحيعلتين، والذي يقتضيه الحديث ما تقدم‏.‏

وقوله ‏"‏الصلاة في الرحال ‏"‏ بنصب الصلاة والتقدير صلوا الصلاة، والرحال جمع رحل وهو مسكن الرجل وما فيه من أثاثه‏.‏

قال النووي‏:‏ فيه أن هذه الكلمة تقال في نفس الأذان‏.‏

وفي حديث ابن عمر يعني الآتي في ‏"‏ باب الأذان للمسافر ‏"‏ أنها تقال بعده، قال‏:‏ والأمران جائزان كما نص عليه الشافعي، لكن بعده أحسن ليتم نظم الأذان‏.‏

قال‏:‏ ومن أصحابنا من يقول لا يقوله إلا بعد الفراغ، وهو ضعيف مخالف لصريح حديث ابن عباس‏.‏

انتهى‏.‏

وكلامه يدل على أنها تزاد مطلقا إما في أثنائه وإما بعده، لا أنها بدل من حي على الصلاة، وقد تقدم عن ابن خزيمة ما يخالفه، وقد ورد الجمع بينهما في حديث آخر أخرجه عبد الرزاق وغيره بإسناد صحيح عن نعيم ابن النحام قال ‏"‏ أذن مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم للصبح في ليلة باردة، فتمنيت لو قال‏:‏ ومن قعد فلا حرج‏.‏

فلما قال الصلاة خير من النوم قالها‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال فعل هذا‏)‏ كأنه فهم من نظرهم الإنكار‏.‏

وفي رواية الحجبي ‏"‏ كأنهم أنكروا ذلك ‏"‏ وفي رواية ابن علية ‏"‏ فكأن الناس استنكروا ذلك‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من هو خير منه‏)‏ وللكشميهني ‏"‏ منهم ‏"‏ وللحجبي ‏"‏ مني ‏"‏ يعني النبي صلى الله عليه وسلم، كذا في أصل الرواية، ومعني رواية الباب من هو خير من المؤذن، يعني فعله مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خير من هذا المؤذن، وأما رواية الكشميهني ففيها نظر، ولعل من أذن كانوا جماعة إن كانت محفوظة، أو أراد جنس المؤذنين، أو أراد خير من المنكرين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإنها‏)‏ أي الجمعة كما تقدم ‏(‏عزمة‏)‏ بسكون الزاي ضد الرخصة، زاد ابن علية ‏"‏ وإني كرهت أن أخرجكم فتمشون في الطين ‏"‏ وفي رواية الحجبي من طريق عاصم ‏"‏ إلى أؤثمكم ‏"‏ وهي ترجح رواية من روى ‏"‏ أحرجكم ‏"‏ بالحاء المهملة‏.‏

وفي رواية جرير عن عاصم عند ابن خزيمة ‏"‏ أن أخرج الناس وأكلفهم أن يحملوا الخبث من طرقهم إلى مسجدكم ‏"‏ وسيأتي الكلام على ما يتعلق بسقوط الجمعة بعذر المطر في كتاب الجمعة إن شاء الله تعالى‏.‏

ومطابقة الحديث للترجمة أنكرها الداودي فقال‏:‏ لا حجة فيه على جواز الكلام في الأذان، بل القول المذكور من جملة الأذان في ذلك المحل، وتعقب بأنه وإن ساغ ذكره في هذا المحل لكنه ليس من ألفاظ الأذان المعهود، وطريق بيان المطابقة أن هذا الكلام لما جازت زيادته في الأذان للحاجة إليه دل على جواز الكلام في الأذان لمن يحتاج إليه‏.‏

*3*باب أَذَانِ الْأَعْمَى إِذَا كَانَ لَهُ مَنْ يُخْبِرُهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب أذان الأعمى‏)‏ أي جوازه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا كان له من يخبره‏)‏ أي بالوقت، لأن الوقت في الأصل مبني على المشاهدة، وعلى هذا القيد يحمل ما روى ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن مسعود وابن الزبير وغيرهما أنهم كرهوا أن يكون المؤذن أعمى، وأما ما نقله النووي عن أبي حنيفة وداود أن أذان الأعمى لا يصح فقد تعقبه السروجي بأنه غلط على أبي حنيفة، نعم في المحيط للحنفية أنه يكره‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ثُمَّ قَالَ وَكَانَ رَجُلًا أَعْمَى لَا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عبد الله بن مسلمة‏)‏ هو القعنبي، قال الدار قطني‏:‏ تفرد القعنبي بروايته إياه في الموطأ موصولا عن مالك، ولم يذكر غيره من رواة الموطأ فيه ابن عمر، ووافقه على وصله عن مالك - خارج الموطأ - عبد الرحمن بن مهدي وعبد الرزاق وروح بن عبادة وأبو قرة وكامل بن طلحة وآخرون، ووصله عن الزهري جماعة من حفاظ أصحابه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن بلالا يؤذن بليل‏)‏ فيه إشعار بأن ذلك كان من عادته المستمرة، وزعم بعضهم أن ابتداء ذلك باجتهاد منه، وعلى تقدير صحته فقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فصار في حكم المأمور به، وسيأتي الكلام على تعيين الوقت الذي كان يؤذن فيه من الليل بعد باب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فكلوا‏)‏ فيه إشعار بأن الأذان كان علامة عندهم على دخول الوقت فبين لهم أن أذان بلال بخلاف ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ابن أم مكتوم‏)‏ اسمه عمرو كما سيأتي موصولا في الصيام وفضائل القرآن، وقيل‏:‏ كان اسمه الحصين فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، ولا يمتنع أنه كان له اسمان، وهو قرشي عامري، أسلم قديما، والأشهر في اسم أبيه قيس بن زائدة‏.‏

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكرمه ويستخلفه على المدينة، وشهد القادسية في خلافة عمر فاستشهد بها، وقيل رجع إلى المدينة فمات، وهو الأعمى المذكور في سورة عبس، واسم أمه عاتكة بنت عبد الله المخزومية‏.‏

وزعم بعضهم أنه ولد أعمى فكنيت أمه أم مكتوم لانكتام نور بصره، والمعروف أنه عمي بعد بدر بسنتين صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكان رجلا أعمى‏)‏ ظاهره أن فاعل قال هو ابن عمر، وبذلك جزم الشيخ الموفق في ‏"‏ المغني ‏"‏ لكن رواه الإسماعيلي عن أبي خليفة والطحاوي عن يزيد بن سنان كلاهما عن القعنبي فعينا أنه ابن شهاب، وكذلك رواه إسماعيل بن إسحاق ومعاذ بن المثنى وأبو مسلم الكجي الثلاثة عند الدار قطني، والخزاعي عند أبي الشيخ، وتمام عند أبي نعيم، وعتمان الدارمي عند البيهقي، كلهم عن القعنبي‏.‏

وعلى هذا ففي رواية البخاري إدراج‏.‏

ويجاب عن ذلك بأنه لا يمنع كون ابن شهاب قاله أن يكون شيخه قاله، وكذا شيخ شيخه، وقد رواه البيهقي من رواية الربيع بن سليمان عن ابن وهب عن يونس والليث جميعا عن ابن شهاب وفيه ‏"‏ قال سالم‏:‏ وكان رجلا ضرير البصر ‏"‏ ففي هذا أن شيخ ابن شهاب قاله أيضا، وسيأتي في كتاب الصيام عن المصنف من وجه آخر عن ابن عمر ما يؤدي معناه، وسنذكر لفظه قريبا، فثبتت صحة وصله‏.‏

ولابن شهاب فيه شيخ آخر أخرجه عبد الرزاق عن معمر عنه عن سعيد بن المسيب وفيه الزيادة، قال ابن عبد البر‏:‏ هو حديث آخر لابن شهاب، وقد وافق ابن إسحاق معمرا فيه عن ابن شهاب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أصبحت أصبحت‏)‏ أي دخلت في الصباح، هذا ظاهره، واستشكل لأنه جعل أذانه غاية للأكل، فلو لم يؤذن حتى يدخل في الصباح للزم منه جواز الأكل بعد طلوع الفجر، والإجماع على خلافه إلا من شذ كالأعمش‏.‏

وأجاب ابن حبيب وابن عبد البر والأصيلي وجماعة من الشراح بأن المراد قاربت الصباح ويعكر على هذا الجواب أن في رواية الربيع التي قدمناها ‏"‏ ولم يكن يؤذن حتى يقول له الناس حين ينظرون إلى بزوغ الفجر‏:‏ أذن ‏"‏ وأبلغ من ذلك أن لفظ رواية المصنف التي في الصيام ‏"‏ حتى يؤذن ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر ‏"‏ وإنما قلت إنه أبلغ لكون جميعه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضا فقوله ‏"‏ إن بلالا يؤذن بليل ‏"‏ يشعر أن ابن أم مكتوم بخلافه، ولأنه لو كان قبل الصبح لم يكن بينه وبين بلال فرق لصدق أن كلا منهما أذن قبل الوقت، وهذا الموضع عندي في غاية الإشكال، وأقرب ما يقال فيه إن أذانه جعل علامة لتحريم الأكل والشرب، وكأنه كان له من يراعي الوقت بحيث يكون أذانه مقارنا لابتداء طلوع الفجر وهو المراد بالبزوغ، وعند أخذه في الأذان يعترض الفجر في الأفق، ثم ظهر لي أنه لا يلزم من كون المراد بقولهم ‏"‏ أصبحت ‏"‏ أي قاربت الصباح وقوع أذانه قبل الفجر لاحتمال أن يكون قولهم ذلك يقع في آخر جزء من الليل وأذانه يقع في أول جزء من طلوع الفجر، وهذا وإن كان مستبعدا في العادة فليس بمستبعد من مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم المؤيد بالملائكة، فلا يشاركه فيه من لم يكن بتلك الصفة، وقد روى أبو قرة من وجه آخر عن ابن عمر حديثا فيه ‏"‏ وكان ابن أم مكتوم يتوخى الفجر فلا يخطئه‏"‏‏.‏

وفي هذا الحديث جواز الأذان قبل طلوع الفجر، وسيأتي بعد باب، واستحباب أذان واحد بعد واحد‏.‏

وأما أذان اثنين معا فمنع منه قوم، ويقال إن أول من أحدثه بنو أمية‏.‏

وقال الشافعية‏:‏ لا يكره إلا إن حصل من ذلك تهويش، واستدل به على جواز اتخاذ مؤذنين في المسجد الواحد، قال ابن دقيق العيد‏:‏ وأما الزيادة على الاثنين فليس في الحديث تعرض له‏.‏

انتهى‏.‏

ونص الشافعي على جوازه ولفظه‏:‏ ولا يتضيق صلى الله عليه وسلم إن أذن أكثر من اثنين، وعلى جواز تقليد الأعمى للبصير في دخول الوقت وفيه أوجه، واختلف فيه الترجيح، وصحح النووي في كتبه أن للأعمى والبصير اعتماد المؤذن الثقة، وعلى جواز شهادة الأعمى، وسيأتي ما فيه في كتاب الشهادات‏.‏

وعلى جواز العمل بخبر الواحد، وعلى أن ما بعد الفجر من حكم النهار، وعلى جواز الأكل مع الشك في طلوع الفجر لأن الأصل بقاء الليل، وخالف في ذلك مالك فقال‏:‏ يجب القضاء‏.‏

وعلى جواز الاعتماد على الصوت في الرواية إذا كان عارفا به وإن لم يشاهد الراوي، وخالف في ذلك شعبة لاحتمال الاشتباه‏.‏

وعلى جواز ذكر الرجل بما فيه من العاهة إذا كان يقصد التعريف ونحوه، وجواز نسبة الرجل إلى أمه إذا اشتهر بذلك واحتيج إليه‏.‏

*3*باب الْأَذَانِ بَعْدَ الْفَجْرِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الأذان في الفجر‏)‏ قال الزين بن المنير‏:‏ قدم المصنف ترجمة الأذان بعد الفجر على ترجمة الأذان قبل الفجر فخالف الترتيب الوجودي، لأن الأصل في الشرع أن لا يؤذن إلا بعد دخول الوقت، فقدم ترجمة الأصل على ما ندر عنه‏.‏

وأشار ابن بطال إلى الاعتراض على الترجمة بأنه لا خلاف فيه بين الأئمة، وإنما الخلاف في جوازه قبل الفجر‏.‏

والذي يظهر لي أن مراد المصنف بالترجمتين أن يبين أن المعنى الذي كان يؤذن لأجله قبل الفجر غير المعنى الذي كان يؤذن لأجله بعد الفجر، وأن الأذان قبل الفجر لا يكتفى به عن الأذان بعده، وأن أذان ابن أم مكتوم لم يكن يقع قبل الفجر، والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ أَخْبَرَتْنِي حَفْصَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اعْتَكَفَ الْمُؤَذِّنُ لِلصُّبْحِ وَبَدَا الصُّبْحُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تُقَامَ الصَّلَاةُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏كان إذا اعتكف المؤذن للصبح‏)‏ هكذا وقع عند جمهور رواة البخاري وفيه نظر، وقد استشكله كثير من العلماء، ووجهه بعضهم كما سيأتي، والحديث في الموطأ عند جميع رواته بلفظ ‏"‏ كان إذا سكت المؤذن من الأذان لصلاة الصبح ‏"‏ وكذا رواه مسلم وغيره وهو الصواب، وقد أصلح في رواية ابن شبويه عن الفربري كذلك‏.‏

وفي رواية الهمداني ‏"‏ كان إذا أذن ‏"‏ بدل اعتكف، وهي أشبه بالرواية المصوبة‏.‏

ووقع في رواية النسفي عن البخاري بلفظ كان إذا اعتكف وأذن المؤذن وهو يقتضي أن صنيعه ذلك كان مختصا بحال اعتكافه، وليس كذلك، والظاهر أنه من إصلاحه‏.‏

وقد أطلق جماعة من الحفاظ القول بأن الوهم فيه من عبد الله بن يوسف شيخ البخاري، ووجه ابن بطال وغيره بأن معنى ‏"‏ اعتكف المؤذن ‏"‏ أي لازم ارتقابه ونظره إلى أن يطلع الفجر ليؤذن عند أول إدراكه‏.‏

قالوا‏:‏ وأصل العكوف لزوم الإقامة بمكان واحد، وتعقب بأنه يلزم منه أنه كان لا يصليهما إلا إذا وقع ذلك من المؤذن لما يقتضيه مفهوم الشرط، وليس كذلك لمواظبته عليهما مطلقا، والحق أن لفظ ‏"‏ اعتكف ‏"‏ محرف من لفظ ‏"‏ سكت ‏"‏ وقد أخرجه المؤلف في باب الركعتين بعد الظهر من طريق أيوب عن نافع بلفظ ‏"‏ كان إذا أذن المؤذن وطلع الفجر‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وبدا الصبح‏)‏ بغير همز أي ظهر، وأغرب الكرماني فصحح أنه بالنون المكسورة والهمزة بعد المد، وكأنه ظن أنه معطوف على قوله ‏"‏ للصبح ‏"‏ فيكون التقدير واعتكف لنداء الصبح، وليس كذلك فإن الحديث في جميع النسخ من الموطأ والبخاري ومسلم وغيرها بالباء الموحدة المفتوحة وبعد الدال ألف مقصورة والواو فيه واو الحال لا واو العطف، وبذلك تتم مطابقة الحديث للترجمة، وسيأتي بقية الكلام عليه في أبواب التطوع إن شاء الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءِ وَالْإِقَامَةِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن يحيى‏)‏ هو ابن أبي كثير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بين النداء والإقامة‏)‏ قال الزين بن المنير‏:‏ حديث عائشة أبعد في الاستدلال به للترجمة من حديث حفصة، لأن قولها ‏"‏ بين النداء والإقامة ‏"‏ لا يستلزم كون الأذان بعد الفجر‏.‏

ثم أجاب عن ذلك بما محصله‏:‏ إنها بالركعتين ركعتي الفجر، وهما لا يصليان إلا بعد الفجر، فإذا صلاهما بعد الأذان استلزم أن يكون الأذان وقع بعد الفجر‏.‏

انتهى‏.‏

وهو مع ما فيه من التكلف غير سالم من الانتقاد‏.‏

والذي عندي أن المصنف جرى على عادته في الإيماء إلى بعض ما ورد في طرق الحديث الذي يستدل به، وبيان ذلك فيما أورده بعد بابين من وجه آخر عن عائشة ولفظه ‏"‏ كان إذا سكت المؤذن قام فركع ركعتين خفيفتين قبل صلاة الصبح بعد أن يستبين الفجر‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ بِلَالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عبد الله بن دينار‏)‏ هذا إسناد آخر لمالك في هذا الحديث، قال ابن عبد البر‏:‏ لم يختلف عليه فيه، واعترض ابن التيمي فقال‏:‏ هذا الحديث لا يدل على الترجمة، لجعله غاية الأكل ابتداء أذان ابن أم مكتوم، فدل على أن أذانه كان يقع قبل الفجر بقليل‏.‏

وجوابه ما تقدم تقريره في الباب الذي قبله‏.‏

وقال الزين بن المنير‏:‏ الاستدلال بحديث ابن عمر أوجه من غيره، فإن قوله ‏"‏ حتى ينادي ابن أم مكتوم ‏"‏ يقتضي أنه ينادي حين يطلع الفجر، لأنه لو كان ينادي قبله لكان كبلال ينادي بليل‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ قال ابن منده حديث عبد الله بن دينار مجمع على صحته، رواه جماعة من أصحابه عنه، ورواه عنه شعبة فاختلف عليه فيه‏:‏ رواه يزيد بن هارون عنه على الشك أن بلالا كما هو المشهور، أو ‏"‏ أن ابن أم مكتوم ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال‏"‏‏.‏

قال‏:‏ ولشعبة فيه إسناد آخر، فإنه رواه أيضا عن خبيب بن عبد الرحمن عن عمته أنيسة فذكره على الشك أيضا، أخرجه أحمد عن غندر عنه، ورواه أبو داود الطيالسي عنه جازما بالأول، ورواه أبو الوليد عنه جازما بالثاني، وكذا أخرجه ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان من طرق عن شعبة، وكذلك أخرجه الطحاوي والطبراني من طريق منصور بن زاذان عن خبيب بن عبد الرحمن، وادعى ابن عبد البر وجماعة من الأئمة بأنه مقلوب وأن الصواب حديث الباب، وقد كنت أميل إلى ذلك إلى أن رأيت الحديث في صحيح ابن خزيمة من طريقين آخرين عن عائشة، وفي بعض ألفاظه ما يبعد وقوع الوهم فيه وهو قوله ‏"‏ إذا أذن عمرو فإنه ضرير البصر فلا يغرنكم، وإذا أذن بلال فلا يطعمن أحد ‏"‏ وأخرجه أحمد، وجاء عن عائشة أيضا أنها كانت تنكر حديث ابن عمر وتقول إنه غلط، أخرج ذلك البيهقي من طريق الدراوردي عن هشام عن أبيه عنها فذكر الحديث وزاد ‏"‏ قالت عائشة‏:‏ وكان بلال يبصر الفجر ‏"‏ قال‏:‏ وكانت عائشة تقول‏:‏ غلط ابن عمر‏.‏

انتهى‏.‏

وقد جمع خزيمة والضبعي بين الحديثين بما حاصله‏:‏ أنه يحتمل أن يكون الأذان كان نوبا بين بلال وابن أم مكتوم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الناس أن أذان الأول منهما لا يحرم على الصائم شيئا ولا يدل على دخول وقت الصلاة بخلاف الثاني‏.‏

وجزم ابن حبان بذلك ولم يبده احتمالا، وأنكر ذلك عليه الضياء وغيره، وقيل‏:‏ لم يكن نوبا، وإنما كانت لهما حالتان مختلفتان‏:‏ فإن بلالا كان في أول ما شرع الأذان يؤذن وحده ولا يؤذن للصبح حتى يطلع الفجر، وعلى ذلك تحمل رواية عروة عن امرأة من بني النجار قالت ‏"‏ كان بلال يجلس على بيتي وهو أعلى بيت في المدينة، فإذا رأى الفجر تمطأ ثم أذن ‏"‏ أخرجه أبو داود وإسناده حسن، ورواية حميد عن أنس ‏"‏ أن سائلا سأل عن وقت الصلاة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأذن حين طلع الفجر ‏"‏ الحديث أخرجه النسائي وإسناده صحيح، ثم أردف بابن أم مكتوم وكان يؤذن بليل واستمر بلال على حالته الأولى، وعلى ذلك تنزل رواية أنيسة وغيرها، ثم في آخر الأمر أخر ابن أم مكتوم لضعفه ووكل به من يراعي له الفجر، واستقر أدان بلال بليل، وكان سبب ذلك ما روي أنه ربما كان أخطأ الفجر فأذن قبل طلوعه، وأنه أخطأ مرة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فيقول ‏"‏ ألا إن العبد نام ‏"‏ يعني أن غلبة النوم على عينيه منعته من تبين الفجر، وهو حديث أخرجه أبو داود وغيره من طريق حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر موصولا مرفوعا ورجاله ثقات حفاظ، لكن اتفق أئمة الحديث على ابن المديني وأحمد ابن حنبل والبخاري والذهلي وأبو حاتم وأبو داود والترمذي والأثرم والدار قطني على أن حمادا أخطأ في رفعه، وأن الصواب وقفه على عمر بن الخطاب، وأنه هو الذي وقع له ذلك مع مؤذنه وأن حمادا انفرد برفعه، ومع ذلك فقد وجد له متابع، أخرجه البيهقي من طريق سعيد بن زربي وهو بفتح الزاي وسكون الراء بعدها موحدة ثم ياء كياء النسب فرواه عن أيوب موصولا لكن سعيد ضعيف‏.‏

ورواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب أيضا، لكنه أعضله فلم يذكر نافعا ولا ابن عمر‏.‏

وله طريق أخرى عن نافع عند الدار قطني وغيره اختلف في رفعها ووقفها أيضا، وأخرى مرسلة من طريق يونس بن عبيد وغيره عن حميد بن هلال وأخرى من طريق سعيد عن قتادة مرسلة ووصلها يونس عن سعيد بذكر أنس، وهذه طرق يقوي بعضها بعضا قوة ظاهرة، فلهذا والله أعلم استقر أن بلالا يؤذن الأذان الأول، وسنذكر اختلافهم في تعيين الوقت المراد من قوله ‏"‏ يؤذن بليل ‏"‏ في الباب الذي بعد هذا‏.‏

*3*باب الْأَذَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الأذان قبل الفجر‏)‏ أي ما حكمه‏؟‏ هل يشرع أو لا‏؟‏ وإذا شرع هل يكتفى به عن إعادة الأذان بعد الفجر أو لا‏؟‏ وإلى مشروعيته مطلقا ذهب الجمهور‏.‏

وخالف الثوري وأبو حنيفة ومحمد، وإلى الاكتفاء مطلقا ذهب مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم، وخالف ابن خزيمة وابن المنذر وطائفة من أهل الحديث وقال به الغزالي في الإحياء، وادعى بعضهم أنه لم يرد في شيء من الحديث ما يدل على الاكتفاء، وتعقب بحديث الباب، وأجيب بأنه مسكوت عنه فلا يدل، وعلى التنزل فمحله فيما إذا لم يرد نطق بخلافه، وهنا قد ورد حديث ابن عمر وعائشة بما يشعر بعدم الاكتفاء، وكأن هذا هو السر في إيراد البخاري لحديثهما في هذا الباب عقب حديث ابن مسعود، نعم حديث زياد بن الحارث عند أبي داود يدل على الاكتفاء، فإن فيه أنه أذن قبل الفجر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه استأذنه في الإقامة فمنعه، إلى أن طلع الفجر فأمره فأقام، لكن في إسناده ضعف‏.‏

وأيضا فهي واقعة عين وكانت في سفر، ومن ثم قال القرطبي‏:‏ إنه مذهب واضح، غير أن العمل المنقول بالمدينة على خلافه‏.‏

انتهى‏.‏

فلم يرده إلا بالعمل على قاعدة المالكية‏.‏

وادعى بعض الحنفية - كما حكاه السروجي منهم - أن النداء قبل الفجر لم يكن بألفاظ الأذان، وإنما كان تذكيرا أو تسحيرا كما يقع للناس اليوم، وهذا مردود، لكن الذي يصنعه الناس اليوم محدث قطعا، وقد تضافرت الطرق على التعبير بلفظ الأذان، فحمله على معناه الشرعي مقدم، ولأن الأذان الأول لو كان بألفاظ مخصوصة لما التبس على السامعين‏.‏

وسياق الخبر يقتضي أنه خشي عليهم الالتباس‏.‏

وادعى ابن القطان أن ذلك كان في رمضان خاصة وفيه نظر‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ أَوْ أَحَدًا مِنْكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ مِنْ سَحُورِهِ فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ أَوْ يُنَادِي بِلَيْلٍ لِيَرْجِعَ قَائِمَكُمْ وَلِيُنَبِّهَ نَائِمَكُمْ وَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ الْفَجْرُ أَوْ الصُّبْحُ وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ وَرَفَعَهَا إِلَى فَوْقُ وَطَأْطَأَ إِلَى أَسْفَلُ حَتَّى يَقُولَ هَكَذَا وَقَالَ زُهَيْرٌ بِسَبَّابَتَيْهِ إِحْدَاهُمَا فَوْقَ الْأُخْرَى ثُمَّ مَدَّهَا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏زهير‏)‏ هو ابن معاوية الجعفي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبي عثمان‏)‏ في رواية ابن خزيمة من طريق معتمر بن سليمان عن أبيه ‏"‏ حدثنا أبو عثمان ‏"‏ ولم أر هذا الحديث من حديث ابن مسعود في شيء من الطرق إلا من رواية أبي عثمان عنه، ولا من رواية أبي عثمان إلا من رواية سليمان التيمي عنه‏.‏

واشتهر عن سليمان، وله شاهد في صحيح مسلم من حديث سمرة بن جندب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أحدكم أو أحد منكم‏)‏ شك من الراوي وكلاهما يفيد العموم وإن اختلفت الحيثية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من سحوره‏)‏ بفتح أوله اسم لما يؤكل في السحر، ويجوز الضم وهو اسم الفعل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ليرجع‏)‏ بفتح الياء وكسر الجيم المخففة يستعمل هذا لازما ومتعديا، يقال رجع زيد ورجعت زيدا ولا يقال في المتعدي بالتثقيل‏.‏

فعلى هذا من رواه بالضم والتثقيل أخطأ فإنه يصير من الترجيع وهو الترديد، وليس مرادنا هنا، وإنما معناه يرد القائم - أي المتهجد - إلى راحته ليقوم إلى صلاة الصبح نشيطا، أو يكون له حاجة إلى الصيام فيتسحر، ويوقظ النائم ليتأهب لها بالغسل ونحوه، وتمسك الطحاوي بحديث ابن مسعود هذا لمذهبه فقال‏:‏ فقد أخبر أن ذلك النداء كان لما ذكر لا للصلاة‏.‏

وتعقب بأن قوله ‏"‏ لا للصلاة ‏"‏ زيادة في الخبر، وليس فيه حصر فيما ذكر، فإن قيل تقدم في تعريف الأذان الشرعي أنه إعلام بدخول وقت الصلاة بألفاظ مخصوصة والأذان قبل الوقت، ليس إعلاما بالوقت، فالجواب أن الإعلام بالوقت أعم من أن يكون إعلاما بأنه دخل أو قارب أن يدخل، وإنما اختصت الصبح بذلك من بين الصلوات لأن الصلاة في أول وقتها مرغب فيه، والصبح يأتي غالبا عقب نوم فناسب أن ينصب من يوقظ الناس قبل دخول وقتها ليتأهبوا ويدركوا فضيلة أول الوقت، والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وليس أن يقول الفجر‏)‏ فيه إطلاق القول على الفعل أي يظهر، وكذا قوله‏:‏ ‏(‏وقال بأصابعه ورفعها‏)‏ أي أشار‏.‏

وفي رواية الكشميهني‏.‏

‏"‏ بإصبعيه ورفعهما‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلى فوق‏)‏ بالضم على البناء، وكذا ‏(‏أسفل‏)‏ لنية المضاف إليه دون لفظه نحو ‏(‏لله الأمر من قبل ومن بعد‏)‏ ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال زهير‏)‏ أي الراوي، وهي أيضا بمعنى أشار، وكأنه جمع بين إصبعيه ثم فرقهما ليحكي صفة الفجر الصادق لأنه يطلع معترضا ثم يعم الأفق ذاهبا يمينا وشمالا، بخلاف الفجر الكاذب وهو الذي تسميه العرب ‏"‏ ذنب السرحان ‏"‏ فإنه يظهر في أعلى السماء ثم ينخفض، وإلى ذلك أشار بقوله رفع وطأطأ رأسه‏.‏

وفي رواية الإسماعيلي من طريق عيسى بن يونس عن سليمان ‏"‏ فإن الفجر ليس هكذا ولا هكذا، ولكن الفجر هكذا ‏"‏ فكأن أصل الحديث كان بهذا اللفظ مقرونا بالإشارة الدالة على المراد، وبهذا اختلفت عبارة الرواة، وأخصر ما وقع فيها رواية جرير عن سليمان عند مسلم ‏"‏ وليس الفجر المعترض ولكن المستطيل‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ح و حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ عِيسَى الْمَرْوَزِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثني إسحاق‏)‏ لم أره منسوبا، وتردد فيه الجياني، وهو عندي ابن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه كما جزم به المزي، ويدل عليه تعبيره بقوله ‏"‏ أخبرنا ‏"‏ فإنه لا يقول قط حدثنا بخلاف إسحاق ابن منصور وإسحاق نن نصر، وأما ما وقع بخط الدمياطي أنه الواسطي ثم فسره بأنه ابن شاهين فليس بصواب لأنه لا يعرف له عن أبي أسامة شيء، لأن أبا أسامة كوفي وليس في شيوخ ابن شاهين أحد من أهل الكوفة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال عبيد الله حدثنا‏)‏ فاعل قال أبو أسامة، وعبيد الله قائل حدثنا، فالتقدير حدثنا عبيد الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن نافع‏)‏ هو معطوف على ‏"‏ عن القاسم بن محمد‏"‏‏.‏

والحاصل أنه أخرج الحديث عن عبيد الله بن عمر من وجهين‏:‏ الأول ذكر له فيه إسناد بن نافع عن ابن عمر والقاسم عن عائشة، وأما الثاني فاقتصر فيه على الإسناد الثاني‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى يؤذن‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ حتى ينادي‏"‏، وقد أورده في الصيام بلفظ ‏"‏ يؤذن ‏"‏ وزاد في آخره ‏"‏ فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر ‏"‏ قال القاسم‏:‏ لم يكن بين أذانيهما إلا أن يرقى ذا وينزل ذا، وفي هذا تقييد لما أطلق في الروايات الآخرى من قوله ‏"‏ إن بلالا يؤذن بليل‏"‏، ولا يقال إنه مرسل لأن القاسم تابعي فلم يدرك القصة المذكورة، لأنه ثبت عند النسائي من رواية حفص بن غياث، وعند الطحاوي من رواية يحيى القطان كلاهما عن عبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة فذكر الحديث قالت ‏"‏ ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا ‏"‏ وعلى هذا فمعنى قوله في رواية البخاري ‏"‏ قال القاسم ‏"‏ أي في روايته عن عائشة‏.‏

وقد وقع عند مسلم في رواية ابن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر مثل هذه الزيادة، وفيها نظر أوضحته في كتاب ‏"‏ المدرج ‏"‏ وثبتت الزيادة أيضا في حديث أنيسة الذي تقدمت الإشارة إليه، وفيه حجة لمن ذهب إلى أن الوقت الذي يقع فيه الأذان قبل الفجر هو وقت السحور، وهو أحد الأوجه في المذهب واختاره السبكي في شرح المنهاج وحكى تصحيحه عن القاضي حسين والمتولي وقطع به البغوي، وكلام ابن دقيق العيد يشعر به، فإنه قال بعد أن حكاه‏:‏ يرجح هذا بأن قوله ‏"‏ إن بلالا ينادي بليل ‏"‏ خبر يتعلق به فائدة للسامعين قطعا، وذلك إذا كان وقت الأذان مشتبها محتملا لأن يكون عند طلوع الفجر فبين صلى الله عليه وسلم أن ذلك لا يمنع الأكل والشرب بل الذي يمنعه طلوع الفجر الصادق، قال‏:‏ وهذا يدل على تقارب وقت أذان بلال من الفجر‏.‏

انتهى‏.‏

ويقويه أيضا ما تقدم من أن الحكمة في مشروعيته التأهب لإدراك الصبح في أول وقتها، وصحح النووي في أكثر كتبه أن مبدأه من نصف الليل الثاني، وأجاب عن الحديث في شرح مسلم فقال‏:‏ قال العلماء معناه أن بلالا كان يؤذن ويتربص بعد أذانه للدعاء ونحوه، فإذا قارب طلوع الفجر نزل فأخبر ابن أم مكتوم فيتأهب بالطهارة وغيرها ثم يرقى ويشرع في الأذان مع أول طلوع الفجر‏.‏

وهذا - مع وضوح مخالفته لسياق الحديث - يحتاج إلى دليل خاص لما صححه حتى يسوغ له التأويل‏.‏

ووراء ذلك أقوال أخرى معروفة في الفقهيات‏.‏

واحتج الطحاوي لعدم مشروعية الأذان قبل الفجر بقوله‏:‏ لما كان بين أذانيهما من القرب ما ذكر في حديث عائشة ثبت أنهما كانا يقصدان وقتا واحدا وهو طلوع الفجر فيخطئه بلال ويصيبه ابن أم مكتوم‏.‏

وتعقب بأنه لو كان كذلك لما أقره النبي صلى الله عليه وسلم مؤذنا واعتمد عليه، ولو كان كما ادعى لكان وقوع ذلك منه نادرا‏.‏

وظاهر حديث ابن عمر يدل على أن ذلك كان شأنه وعادته، والله أعلم‏.‏